
اجتهادات السلطة القضائية تهدد بقاء الديمقراطية في العراق!
المستقلة / تحقيق استقصائي /– رغم أن القضاء يُفترض أن يكون الملاذ الأخير للعدالة وحامي اللعبة الديمقراطية، إلا أن الواقع العراقي يروي حكاية مختلفة تمامًا. فبدلًا من أن تقف المحكمة الاتحادية على مسافة واحدة من الجميع، تحوّلت خلال العقدين الماضيين إلى لاعب رئيسي يغيّر قواعد اللعبة متى شاء.
من تفسير “الكتلة الأكبر” بشكل قلب نتائج الانتخابات، إلى تعطيل اختيار رئيس الجمهورية، وتجريد البرلمان من صلاحياته، وصولًا إلى التأثير المباشر على انتخابات إقليم كردستان، وسلوك مثير للجدل في قضايا الفساد، بدت السلطة القضائية وكأنها تمسك بخيوط اللعبة أكثر من السياسيين أنفسهم.
هذا التحقيق يحاول ان يحفر عميقًا في سلسلة من الاجتهادات والقرارات القضائية التي لم تعد مجرّد تفسيرات قانونية، بل أدوات تعيد تشكيل التوازنات السياسية من خلف الكواليس، وتطرح سؤالًا صارخًا: هل لا تزال الديمقراطية في العراق بخير؟
القضاء يدخل اللعبة السياسية من أوسع أبوابها
في النظم الديمقراطية، يُفترض أن يكون القضاء هو الحكم العادل، الذي لا ينتمي لأي فريق سياسي. لكن في العراق، يبدو أن المحكمة الاتحادية وضعت الصفارة جانبًا، وقررت أن تدخل الملعب. قرارات حاسمة، وتوقيتات دقيقة، وتفسيرات دستورية مثيرة للجدل، جعلتها أقرب إلى شريك في الحكم منها إلى جهة رقابية مستقلة. بدلاً من ضمان التوازن بين السلطات، أصبحت المحكمة أداة لترجيح كفة فريق على حساب آخر. بعض هذه القرارات غيّر مسار تشكيل الحكومات، وأخرى أوقفت مشاريع قوانين، أو أسقطت رؤساء مؤسسات. السؤال الذي لا يغيب: من يراقب من؟ وهل تحوّل القضاء إلى منصّة لتحقيق المكاسب السياسية بدلاً من حماية الدستور؟
الكتلة الأكبر… اجتهاد قضائي واحد غيّر قواعد اللعبة
لا أحد ينسى ما حدث في 2010. حين فازت قائمة إياد علاوي بأعلى عدد من المقاعد، كانت الأمور واضحة: الرجل يشكّل الحكومة. لكن المحكمة الاتحادية قالت غير ذلك. بتفسير واحد لمصطلح “الكتلة النيابية الأكثر عددًا”، فتحت الباب أمام تشكيل تحالفات بعد الانتخابات، وجاء نوري المالكي إلى رئاسة الحكومة من جديد. منذ تلك اللحظة، تغيرت قواعد اللعبة. لم يعد التصويت هو ما يحدد مصير البلد، بل التفاهمات التي تُنسج بعد إعلان النتائج. صوت المواطن تراجع، وصوت المحكمة ارتفع، وبدأ فصل جديد من التفاهمات المغلقة، التي أصبحت أقوى من صناديق الاقتراع.
ما بعد انتخابات 2021… القضاء يعيد خلط الأوراق
بعد انتخابات 2021، تصدّر التيار الصدري المشهد، وبدأ الحديث عن حكومة أغلبية سياسية تُنهي منطق التوافق القسري. لكن المحكمة الاتحادية كان لها رأي آخر. بتفسير جديد للمادة 70 من الدستور، فرضت شرط “نصاب الثلثين” لانتخاب رئيس الجمهورية. هذه الخطوة منحت القوى الخاسرة حق التعطيل الكامل، وقلبت التوازنات رأسًا على عقب. الطموح بحكومة تحكم ومعارضة تراقب تبخّر، وعادت الطبقة السياسية إلى مربع التفاهمات المفروضة. المحكمة، بدل أن تُسهّل الانتقال الديمقراطي، شدّت الفرامل، وأغلقت الطريق أمام أي محاولة لتجديد قواعد اللعبة.
اجتهاد قضائي اخر يفقد البرلمان سلاحه الأهم
في أي ديمقراطية، البرلمان هو مركز التشريع، والنائب يملك الحق في اقتراح القوانين. لكن في العراق، سُحب هذا السلاح من يد البرلمان، عبر تفسير المحكمة للمادة 60 من الدستور. المحكمة رأت أن النواب لا يمكنهم تقديم قوانين بأنفسهم، بل يجب أن تأتي من الحكومة أو الرئاسة. والنتيجة؟ إسقاط قوانين مهمة، منها قانون تحديد ولايات الرئاسات الثلاث. البرلمان، الذي يُفترض أنه صانع القوانين، تحوّل إلى جهة تنتظر ما يأتي من السلطة التنفيذية، لتصادق عليه فقط. هذا الاجتهاد أعاد تعريف وظيفة البرلمان، وترك النواب بلا أدوات حقيقية لممارسة دورهم الرقابي والتشريعي.
الهيئات المستقلة… إلى بيت الطاعة الحكومي
الهيئات المستقلة، مثل مفوضية الانتخابات والبنك المركزي وهيئة النزاهة، كانت مصممة لتقف على مسافة واحدة من الجميع. لكن المحكمة الاتحادية، بقرارها الشهير عام 2010، أعادت ربطها بمجلس الوزراء. النتيجة كانت واضحة: الحكومة أصبحت تملك اليد الطولى في عمل هذه المؤسسات، وتتحكم بميزانياتها وإدارتها. قرار وحيد فتح الباب أمام التدخل السياسي في مفاصل يُفترض أنها محمية دستوريًا. بدل أن تكون هذه الهيئات صمّام أمان للديمقراطية، أصبحت أدوات تنفيذ تحت عباءة السلطة التنفيذية. استقلالها الآن على الورق فقط، وفي الواقع باتت جزءًا من آلة الحكم.
القوانين تُلغى، والرؤساء يُقالون… والقرار في يد المحكمة
في السنوات الأخيرة، صعدت المحكمة الاتحادية إلى قمة هرم التأثير السياسي، ليس فقط بتفسير القوانين، بل بإلغاء نتائج، وإسقاط شخصيات، وتجميد قرارات صادرة من البرلمان. أبرز مثال: إقالة محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان، وقلب موازين داخل السلطة التشريعية. تحليلات سياسية عديدة تشير إلى أن المحكمة لا تراقب فقط، بل تختار التوقيت المناسب لتدخّلها، بشكل يخدم مصالح أطراف بعينها. بهذا المسار، أصبحت المحكمة أقوى من البرلمان نفسه، تمسك بسلطة الإقرار والإلغاء، وتتحول إلى غرفة قرار غير منتخبة تُعيد تشكيل الخريطة السياسية متى شاءت.
من المصادقة إلى صناعة النتائج… القضاء يرسم ما بعد الاقتراع
منذ 2005، لم تعد المحكمة الاتحادية تكتفي بالمصادقة على نتائج الانتخابات، بل بدأت تدريجيًا بتحديد مسار ما بعدها. بعد انتخابات 2021، تدخلت لإيقاف جلسة انتخاب رئاسة البرلمان، ثم عادت وأقرتها، قبل أن تُصدر تفسيرات أعادت ترتيب شروط اختيار الرئيس وتكليف رئيس الوزراء. هذه التداخلات المتكررة جعلت الكثير من المراقبين يعتبرون أن الانتخابات في العراق لا تُحسم عند الصندوق، بل عند أبواب المحكمة الاتحادية. التنافس الانتخابي بات مشروطًا برضا المؤسسة القضائية، ما حوّل الدور الإجرائي للمحكمة إلى سلطة تقرير سياسي مؤثرة في نتائج اللعبة الديمقراطية.
القضاء وسلاح الاستبعاد الانتقائي… من يناسب يُشارك
في كل دورة انتخابية، تظهر موجات من استبعاد المرشحين، لكن المشهد يتكرر بذات النمط: البعض يُقصى لأسباب “إدارية” أو “أخلاقية”، فيما ينجو آخرون رغم شبهات خطيرة تلاحقهم. تقارير حقوقية أكدت أن قرارات الإقصاء كثيرًا ما جاءت نتيجة لضغوط من قوى متنفذة على المفوضية العليا، فيما المحكمة الاتحادية غالبًا ما تصادق على هذا المسار دون مراجعة. المفارقة أن القضاء، بدل أن يضمن نزاهة السباق، أصبح أحد أدوات تصفية الساحة مسبقًا. ومع اقتراب انتخابات 2025، عاد شبح “الاستبعاد الانتقائي” ليؤكد أن المنافسة تُدار من فوق، قبل أن تُحسم على الورق.
مكافحة الفساد؟ فقط على الضعفاء
عشرات مليارات الدولارات أُهدرت في قضايا فساد، لكن من يقبع في السجن؟ موظفون صغار، ومتهمون من الصف الثاني، فيما بقي الكبار بعيدين عن طاولة المساءلة. التسريبات والتقارير الرسمية تشير إلى حجم هائل من الملفات العالقة، لكن القضاء لم يقترب فعليًا من رموز الصفقات الكبرى. في المقابل، تُستخدم أدوات القانون، كإصدار أوامر قبض أو قرارات مصادرة، فقط عندما تخرج شخصية ما عن الخطوط الحمراء أو تُغضب جهة نافذة. بهذا المشهد، لم تعد العدالة متساوية أمام الجميع، بل خاضعة لحسابات سياسية دقيقة. والنتيجة؟ ثقة المواطن بالقضاء تتآكل يومًا بعد يوم.
المحكمة تقرر للإقليم… والفيدرالية على المحك
أحدث قرارات المحكمة الاتحادية بحق إقليم كردستان أثارت عاصفة من الانتقادات، محليًا ودوليًا. إلغاء مواد من قانون انتخابات برلمان الإقليم، وشطب مقاعد الكوتا، ونقل الإشراف على الانتخابات إلى المفوضية الاتحادية، اعتُبر من قبل الكثيرين انتهاكًا صريحًا لصلاحيات الإقليم الدستورية. منظمات دولية عبّرت عن قلقها، وقيادات كردية وصفت الأحكام بأنها “تسييس فاضح”. في الجوهر، لا يتعلق الأمر فقط بخلافات قانونية، بل بمكانة الإقليم ضمن الدولة. المحكمة الاتحادية، بتفسيراتها، باتت تمارس دورًا مركزيًا يعيد تشكيل الفيدرالية العراقية، ويضع العلاقة بين بغداد وأربيل على صفيح ساخن.
ولاية البرلمان والحكومة… من يُنهي من؟
باجتهاد جديد، قررت المحكمة الاتحادية أن ولاية البرلمان والحكومة تنتهي مع بدء التصويت في يوم الانتخابات، لا بعد إعلان النتائج. نظريًا، الهدف هو منع تمديد غير دستوري، لكن فعليًا، فتح القرار بابًا للفوضى. برلمان منتهي الصلاحية لا يمكنه ممارسة دوره، وحكومة “تصريف أعمال” بلا مساءلة تستمر في الحكم لفترات طويلة. هذا التأويل يناقض صراحة المادة 56 من الدستور، التي تحدد مدة البرلمان بأربع سنوات. لكنه أيضًا يُثير السؤال الجوهري: من يملك سلطة تفسير الزمن الدستوري؟ وهل باتت المحكمة قادرة على إعادة ضبط توقيت الدولة بمفردها، بعيدًا عن النصوص الواضحة؟
انقسام داخل القضاء… والعدالة تدخل نفقًا رماديًا
لم تعد المحكمة الاتحادية بمنأى عن الصراعات الداخلية. بين 2024 و2025، شهدت المؤسسة القضائية استقالات جماعية لقضاة احتجاجًا على تدخلات سياسية، ثم عادت الأمور جزئيًا بعد تغييرات في رئاسة المحكمة. بالتوازي، تصاعد الصراع بين المحكمة ومجلس القضاء الأعلى حول الصلاحيات، ما خلق حالة “فوضى قضائية” غير مسبوقة. هذا الانقسام الداخلي ضرب صورة القضاء كمؤسسة موحدة ومحايدة، وأعطى خصومه السياسيين ذريعة للطعن بشرعية قراراته. في بلد يعيش أزمات ثقة متراكمة، لا يبدو أن الجسم القضائي قادر على الوقوف موحدًا، ما يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى مشهد ديمقراطي مهتز أصلًا.
الخاتمة: عندما يُعاد تشكيل الديمقراطية في الكواليس
لم يعد السؤال في العراق: من فاز بالانتخابات؟ بل: ماذا ستقرر المحكمة الاتحادية بعد الاقتراع؟ من الكتلة الأكبر، إلى نصاب انتخاب الرئيس، إلى شكل الحكومة، إلى صلاحيات البرلمان… تبدو قواعد اللعبة الديمقراطية تحت إعادة كتابة دائمة، لكن بأدوات قانونية. التفسيرات التي يُفترض أن تكون لضبط الفوضى، أصبحت في نظر الكثيرين جزءًا منها. في ظل هذا المشهد، لا عجب أن ثقة الشارع تتآكل، وأن السياسيين باتوا يتصارعون على المحكمة أكثر من المقاعد النيابية. الديمقراطية لا تموت بضربة واحدة، بل بإضعاف أدواتها. وهنا، تبدو اجتهادات القضاء كأكثر الأدوات تأثيرًا في إعادة تشكيل العراق… من خلف الستار.





