قمة شرم الشيخ: استعراض سياسي أم بداية تحول استراتيجي؟

المستقلة/- في الثالث عشر من أكتوبر 2025، احتضنت مدينة شرم الشيخ المصرية حدثًا استثنائيًا أعاد الشرق الأوسط إلى صدارة المشهد السياسي العالمي. قمة دولية غير مسبوقة، شهدت مشاركة قادة وزعماء من عواصم عربية وأوروبية، واكبتها زيارة مدوية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي عاد إلى المنطقة حاملاً “إعلانًا للسلام والازدهار الدائم”، ومروجًا لنفسه كصانع تسويات في منطقة تعجّ بالاضطراب والتشظي. لم تكن القمة مجرد لقاء بروتوكولي أو فرصة لإلقاء الخطب، بل شكلت لحظة مكثفة بالدلالات، سواء من حيث توقيتها وسط حرب غزة المستمرة، أو من حيث رمزية من حضر ومن غاب، ومن صفق ومن تحفظ.

ترامب، الذي لطالما أجاد تسويق نفسه كرمز للحسم والاختراقات غير التقليدية، ظهر في القمة بمزيج من استعراض دبلوماسي حاد وسعي محموم للعودة إلى المسرح الدولي. خطابه في الكنيست الإسرائيلي، ولقاؤه مع عائلات الأسرى، مرّرا رسائل مزدوجة: تضامن واضح مع إسرائيل، لكن مع انفتاح على مقايضة حقيقية، تمثلت في إطلاق سراح نحو 20 أسيرًا إسرائيليًا مقابل إفراج عن قرابة ألفي معتقل فلسطيني. ثم كان التتويج في شرم الشيخ، حيث أعلن عن خطة من عشرين بندًا، تقترح مرحلة انتقالية لما بعد الحرب، تتحدث عن الإعمار، والحوكمة، وترتيبات أمنية غامضة التفاصيل، وتجنب مقصود لأي ذكر واضح لحل الدولتين أو ترسيم للحدود.

رغم الاحتفالية المحيطة بالحدث، إلا أن غياب طرفي الصراع المباشر – حكومة نتنياهو وحركة حماس – عن منصة التوقيع، يكشف هشاشة الوثيقة المعلنة، ويفتح باب التساؤلات حول مدى واقعيتها. فالاتفاق وُلد خارج الإجماع، دون التزامات صريحة من الأطراف الأساسية، وكأن القمة تسعى إلى بناء إطار سلام بديل، أو بالأحرى موازي، يُدار بأدوات إقليمية ودولية دون موافقة الميدان. هذا الغياب لم يكن تفصيلاً، بل مؤشراً على عمق المأزق السياسي؛ إذ أن نتنياهو – الذي بات محاصرًا داخليًا بتحديات أمنية وقضائية – لم يرَ في المبادرة سوى قيداً جديدًا على حرية الحركة الإسرائيلية، فيما ترفض حماس الخضوع لترتيبات تتجاوزها أو تلغي دورها في معادلة الحكم والمقاومة.

وبينما وُصفت القمة بأنها “الفرصة الأخيرة” للسلام، فإن أوراقها بدت أكثر رمزية من كونها خارطة طريق محكمة التنفيذ. البنود العشرون لم تتضمن آليات رقابة واضحة، ولا جهة مشرفة على تنفيذ المراحل، ولا حلاً للتمويل الدولي أو القوى التي ستتولى حماية الاستقرار. لقد ظهر الإعلان أقرب إلى وثيقة نوايا من كونه اتفاقًا مُلزِمًا. ورغم ذلك، فإن مجرد جمع هذا العدد من الزعماء في شرم الشيخ – من بينهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأمير قطر، ورئيس الوزراء التركي – يعكس رغبة إقليمية في انتزاع زمام المبادرة من جمود السياسة الدولية، وطرح صيغة بديلة تملأ الفراغ الأميركي الذي استمر في التمدد منذ نهاية عهد أوباما.

لكن، ما الذي يعنيه هذا الحدث في البعد الاستراتيجي؟ أولًا، محاولة ترامب فرض نفسه مجددًا كفاعل مؤثر في ملف الشرق الأوسط، تحمل أبعادًا تتجاوز الملف الفلسطيني، فهي أيضًا رسالة انتخابية داخلية موجهة إلى قاعدته في الولايات المتحدة: ها هو يعيد أميركا إلى الساحة العالمية، عبر “إنجاز” خارجي قد يُترجم إلى مكاسب انتخابية في حال ترشحه الفعلي للرئاسة من جديد. ثانيًا، القمة فتحت مجالاً لإعادة تعريف دور القوى الإقليمية؛ فمصر استعادت زمام المبادرة كضامن مركزي للاستقرار، وقطر عادت إلى دور الوسيط، وتركيا دخلت على الخط في محاولة لموازنة حضورها بين ملفات سوريا، ليبيا، وفلسطين.

أما في الداخل الفلسطيني، فإن التحدي الأكبر لا يكمن في وثائق أو بنود، بل في واقع الانقسام والتشرذم. فبدون مصالحة وطنية فعلية، وتوحيد للقرار السياسي، فإن أي اتفاق – ولو رعته واشنطن وأنقرة والدوحة والقاهرة مجتمعة – سيظل حبراً على ورق. وكذلك في إسرائيل، حيث يواجه اليمين معضلة متزايدة: الاستمرار في سياسة الإنكار والمواجهة، أو القبول الجزئي بمسارات قد تقود لاحقًا إلى تسوية، ولو على مراحل.

من جهة أخرى، يبدو أن أوروبا وجدت في القمة فرصة لإعادة التموقع كلاعب سياسي، لا مجرد ممول، وهو ما قد يشير إلى تحولات تدريجية في ميزان التأثير الدولي في الشرق الأوسط، خصوصًا مع تراجع أولويات واشنطن، واستمرار الاستقطاب بين روسيا والصين من جهة، ومحور الغرب من جهة أخرى. القمة، بهذا المعنى، لم تكن فقط إعلان نوايا للسلام، بل جس نبض جديد لإعادة توزيع النفوذ السياسي والدبلوماسي في المنطقة.

ومع كل ذلك، تبقى الأسئلة الأهم بلا إجابة: من سينفذ هذه الخطة؟ من سيضمن استمراريتها؟ ما موقف الميدان منها؟ وهل يمكن تجاوز حقائق القوة على الأرض بإعلانات من المنصات؟ ربما تمثل قمة شرم الشيخ لحظة سياسية مفصلية، لكنها تبقى مؤجلة الفعالية، ما لم تُرفق بإرادة تنفيذ حقيقية، وضغط دولي مستدام، واستعداد لدفع ثمن السلام لا مجرد تسويقه.

الشرق الأوسط، كما أظهرته القمة، لا يزال أرضًا مفتوحة على كل الاحتمالات. والرهان الحقيقي لم يعد في القدرة على توقيع اتفاقات، بل في القدرة على جعلها تصمد أكثر من مجرد دورة أخبار.

زر الذهاب إلى الأعلى