
لماذا غاب حلّ الدولتين عن خطاب ترامب في الكنيست وقمة شرم الشيخ؟
المستقلة/- في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2025، قدّم الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب عرضًا سياسيًا مزدوجًا: خطابًا في الكنيست احتفى فيه بـ“فجر تاريخي” بعد إتمام عمليات الإفراج عن آخر الأسرى الأحياء من غزة، ثم رعاية “إعلان السلام الدائم والازدهار” في شرم الشيخ بوصفه الإطار الجامع لمرحلة ما بعد الحرب. المفارقة الصارخة أن هذا الحراك، الذي حمل اسم “سلام”، تجنّب عمدًا ذكر “حلّ الدولتين” أو التعهّد به، مكتفيًا بلغة عامة عن التهدئة وإعادة الإعمار وترتيبات اليوم التالي. لماذا حدث ذلك؟ لأن السياسة أملت تكتيكًا مؤقتًا، والائتلافات فرضت حدودها، والحسابات الانتخابية الأميركية طلبت صورة إنجاز بلا كلفة لفظية، بينما دُفع إلى الطاولة بديلٌ عمليّ أقرب إلى “سلام وظيفي” منه إلى تسوية نهائية.
تكتيكيًا، اختار ترامب ومعه الوسطاء الإقليميون تجميد الأسئلة الثقيلة لصالح تثبيت وقف النار وتبادل الأسرى وفتح ممرات الإغاثة. إدخال الدولتين الآن يعني استدعاء ألغام الحدود والقدس والسيادة واللاجئين إلى لحظة هشة، بما يهدد بإجهاض التوافق الناشئ قبل أن تتشكل آلياته التنفيذية. لهذا صيغ “إعلان شرم الشيخ” كوثيقة إدارة انتقالية: مراقبة للهدنة، ترتيبات أمنية، عتبات لإعادة الإعمار، وإرجاءٌ منضبط للملفات النهائية. إنها مقاربة “خطوة–خطوة”: أوقف النزيف، ثبّت الهدوء، ابنِ الأرضية، ثم ناقش المصير لاحقًا.
في إسرائيل، لا يمرّ ذكر “الدولتين” بلا كلفة سياسية فورية. اليمين الحاكم يضع “لا لدولة فلسطينية” في خانة الخطوط الحمراء، وأي التزام لفظي من منصة الكنيست يهدد تماسك الائتلاف ويستدعي ردود فعل تعويق أو انسحاب. تجنّبُ ترامب للعبارة المفتاحية ليس تفصيلًا بل انسجامًا مع ميزان القوى داخل إسرائيل: إبقاء الباب مفتوحًا مع الحكومة لتطبيق خطوات “وظيفية” في الأمن والمعابر والحوكمة، من دون إجبارها على اعتراف رمزي يُقرأ داخليًا كهزيمة سياسية. بهذا المعنى، صمتُ الدولتين كان ثمنًا لإبقاء القناة التنفيذية مع تل أبيب سالكة.
أما في الداخل الأميركي، فالرئيس الذي يخاطب قاعدة محافظة ومؤيدة بقوة لإسرائيل لا يحتاج إلى معركة لفظية إضافية. سردية “أوقفنا الحرب، أعدنا الأسرى، ننطلق نحو إعمار سريع” تمنحه نقاطًا سياسية صافية من دون أن يعلّق نفسه بوعدٍ ثقيل الإرث اسمه “حلّ الدولتين”. وبحكم نمط ترامب السياسي، تفضيلُ “الإنجاز الملموس” على التعريفات النهائية ليس طارئًا: يقدّم نفسه كصاحب صفقة خاصة به، لا كإعادة تدوير لقاموس دبلوماسي سابق. بذلك يجمع مردودًا إعلاميًا داخليًا ويجنّب استفزاز اليمين الإسرائيلي، وهو شريك لازم لتمرير أي ترتيبات على الأرض.
لكن الغياب لم يكن فراغًا؛ فقد طُرح بديل عملي يتكئ على أربع ركائز: سلام وظيفي-أمني يثبّت الهدنة ويمنع ارتداد القتال، منصة إعمار تموّلها شراكة عربية–أوروبية بإشراف تنسيقي أميركي، إدارة انتقالية أو إشراف محدود لمرحلة مؤقتة في غزة تربط الأداء الأمني بالتمويل، وتوسيع منطقي لاحقًا لمسار “المنافع مقابل التطبيع” من خلال رزم حوافز اقتصادية وأمنية تُرحّل القضايا النهائية إلى حين. هذا البديل قد يأخذ شكل “كيان حوكمي منقوص السيادة”، أو “وصاية/بعثة مؤقتة متعددة الأطراف”، أو “ترتيبات وظيفية مشتركة” تُمأسِس التعاون في المعابر والبنية التحتية، من دون تسمية دولة الآن.
يبقى السؤال: لماذا قبلت دول تؤمن نظريًا بالدولتين أن تجلس إلى طاولة لا تنص عليها؟ الإجابة براغماتية. أولًا، منطق “الحد الأدنى أولًا”: إطفاء النار وتخفيف الكارثة الإنسانية وتأمين الإفراجات هدفٌ عاجل لا يحتمل انتظار توافق على الوضع النهائي. ثانيًا، تثبيت الدور: الجلوس داخل الغرفة التنفيذية يمنح هذه الدول نفوذًا على آليات المعابر والتمويل وإعادة الهيكلة بدل ترك المشهد لواشنطن وتل أبيب وحدهما. ثالثًا، الرهان المرحلي: إبقاء المرجعية السياسية حيّة في الخطاب، ولو غابت عن النص الآن، على أمل إعادة إدراجها عندما تتبدل موازين القوى.
هل ما جرى تكتيك أم عقيدة؟ الأرجح مزيج من الاثنين. تكتيكٌ يهدف إلى إنقاذ الهدنة وإطلاق عجلة الإعمار من دون تفجير التحالف الهشّ، لكنه يلتقي مع قناعة قديمة لدى ترامب تُقدّم أمن إسرائيل و”الاقتصاد أولًا” على التعريفات النهائية، وتتحفظ على دولة فلسطينية كاملة السيادة في المدى المنظور. بذلك يصبح “الغموض البنّاء” أداة تفاوضية وغطاء سياسي في آن.
غير أن لهذه المقاربة أثمانًا. هدنة بلا أفق سياسي قابل للتصديق تبقى هشة وقابلة للاهتزاز مع أول أزمة تنفيذ. الشركاء الداعمون تاريخيًا للدولتين سيواجهون فجوة بين لغتهم المعلنة وتفاصيل ما يُنفَّذ على الأرض. والأخطر، أن تتكرس “إدارة الصراع” كواقعٍ دائمٍ مقنّن بترتيبات أمنية وإنسانية مؤقتة تطول، فتتآكل فرص تسوية نهائية بمرور الزمن.
خلاصة القول: غياب حلّ الدولتين لفظًا لم يدفنه نظريًا، لكنه يكشف أولوية مشهدٍ يقدّم وقف النار والإغاثة وإعادة الإعمار وترتيبات انتقالية على حساب الحسم السياسي. صمتُ العبارة كان ثمنًا لمعادلة دقيقة تجمع إسرائيل والوسطاء وواشنطن تحت سقف واحد. ما سيحسم الوجهة لاحقًا ليس الكلمات بل الوقائع: إن تشكّلت بنية تنفيذية تعيد توحيد الحوكمة الفلسطينية وتُلزم إسرائيل بسلالٍ زمنية يمكن التحقق منها، فقد يعود الحديث عن الدولة إلى المتن. وإن بقيت المعادلة إدارةً دائمةً للتهدئة بلا مسار سياسي، فسيتحول “سلام اليوم التالي” إلى هدنة مفتوحة بلا نهاية.





