هل دمّر البنك المركزي القطاع المصرفي الخاص في العراق والى الابد؟

قطاع مصرفي عاجز في بلد نفطي

المستقلة / تحقيق استقصائي/ – رغم أن العراق يمتلك ثروات نفطية هائلة، إلا أن قطاعه المصرفي لا يزال بدائيًا، يفتقر إلى العمق والموثوقية. ويظهر ذلك بوضوح من خلال ضعف الشمول المالي، إذ لا تتجاوز نسبة المواطنين الذين يملكون حسابًا مصرفيًا 19%، وهي من أدنى النسب في المنطقة. هذا الضعف يعكس خللًا بنيويًا عميقًا في العلاقة بين المواطن والمصارف، ويثير أسئلة جوهرية حول فعالية السياسات النقدية والإشراف المصرفي في العراق.

سياسات نقدية مثيرة للجدل
خلال السنوات الأخيرة، انتهج البنك المركزي العراقي سياسات نقدية متخبطة، أبرزها التوسّع النقدي غير المنضبط، حيث ارتفعت الكتلة النقدية من 46 تريليون إلى أكثر من 100 تريليون دينار في ظرف عامين فقط، دون أن يقابلها نمو اقتصادي حقيقي. هذا أدى إلى تضخم تجاوز 7.5%، فرفع البنك المركزي سعر الفائدة إلى 7.5% قبل أن يتراجع عنها لاحقًا إلى 5.5%، في خطوة لم تحقق أثرًا ملموسًا على السوق. كما بقيت الفجوة كبيرة بين سعر الفائدة على القروض التي تتجاوز 10% والفائدة على الودائع التي بالكاد تصل إلى 7%، ما عمّق عزوف المواطنين عن الإيداع، وأضعف قدرة المصارف على التمويل.

نقد خارج النظام وفقدان الثقة
المشكلة لا تكمن فقط في السياسات، بل في واقع مرير يتمثل في أن الجزء الأكبر من النقد المتداول خارج النظام المصرفي. هذا التسرب الهائل يضعف قدرة المصارف على أداء دور الوساطة المالية ويعكس أزمة ثقة حقيقية بين المواطن والبنك. فبعد فضائح إفلاس مصرفية، وهيمنة شخصيات حزبية على بعض المصارف الخاصة، وتراجع الخدمات، وغياب أي نظام فعال لضمان الودائع، أصبح المواطن يرى في المصرف خطرًا لا ملاذًا.

قروض استهلاكية بلا تنمية حقيقية
من أبرز الإخفاقات أن أغلب القروض التي منحتها المصارف خلال السنوات الماضية ذهبت نحو الاستهلاك وليس الإنتاج. تمويل سيارات، قروض شخصية، وأقساط لأغراض ترفيهية، دون توجه حقيقي نحو دعم المشاريع الإنتاجية أو الشركات الصغيرة. هذا أدى إلى تفاقم المضاربات في سوق العقار، وارتفاع أسعار الأراضي، من دون أي إنتاج حقيقي أو خلق فرص عمل، بل فقط تضخّم سكاني عمراني بلا بنية اقتصادية مقابلة.

احتكار حكومي وترهّل إداري
القطاع المصرفي العراقي يتمحور حول مصرفي الرافدين والرشيد، اللذين يسيطران على معظم أصول القطاع، لكن أداءهما ضعيف، وهياكلهما الإدارية تعاني من ترهّل واضح، إضافة إلى أن فروعهما غير مرتبطة إلكترونيًا، وتفتقر إلى بنية تقنية حديثة. في المقابل، لم ينجح البنك المركزي في تطوير إطار رقابي صارم أو فرض الحوكمة على مجالس إدارة المصارف، ما أتاح لمؤسسات مالية صغيرة أن تعمل خارج الضوابط لسنوات طويلة.

نافذة العملة كمدخل لغسيل الأموال
من أخطر الأدوات التي ساهمت في تقويض النظام المصرفي هي نافذة بيع العملة الأجنبية، حيث يبيع البنك المركزي الدولار بسعر رسمي لمصارف خاصة، ثم يُعاد بيعه في السوق الموازية بفارق أرباح كبير. هذه الآلية وفّرت بيئة مثالية لغسيل الأموال وتهريبها إلى الخارج، مستغلة ضعف الرقابة المصرفية، وتكرار الأسماء والمستندات في طلبات التحويل. العديد من المصارف استفادت من هذه الفروقات لتحقيق أرباح غير مشروعة، وتم لاحقًا سحب تراخيص بعضها بعد تدخلات دولية.

عقوبات دولية تؤشر على الخلل
ابتداءً من عام 2022، بدأت الولايات المتحدة تفرض حظرًا على عدد من المصارف العراقية من التعامل بالدولار بسبب شبهات تتعلق بعمليات تحويلات مشبوهة وغسيل أموال. وتوسعت القائمة لاحقًا لتشمل مصارف جديدة، مما أدى إلى تعطيل جزء كبير من عمليات التجارة الخارجية والتحويلات، وأثّر سلبًا على مصداقية البنك المركزي العراقي أمام المؤسسات الدولية والمصارف المراسلة.

تراخيص مصرفية بلا ضوابط واضحة
في السنوات الأخيرة، منح البنك المركزي العراقي تراخيص مصرفية جديدة بأعداد غير مسبوقة، حتى تجاوز عدد المصارف الخاصة السبعين مصرفًا، دون أن يكون هناك مبرر اقتصادي أو تقييم حقيقي لحاجة السوق. هذا التوسع الكمي جاء على حساب النوعية والرقابة، وأسهم في تفتيت السوق المصرفية، وخلق كيانات هشة ضعيفة من الناحية المالية والإدارية، تُستغل في كثير من الأحيان كواجهات لأجندات حزبية أو مصالح خارجية.

تفريط في السيادة المصرفية
رغم وضوح قانون المصارف الأهلية في تحديد الحد الأقصى لنسبة ملكية الأجانب في المصارف العراقية، والتي لا تتجاوز 25%، إلا أن البنك المركزي تغاضى بشكل غير مبرر عن هذا القيد. فقد تم السماح لمؤسسات مالية أجنبية بتملك حصص كبيرة في عدد من المصارف، بصورة مباشرة أو عبر واجهات محلية، ما أدى إلى اختلال في هيكل الملكية، وخلق تبعية مالية خارجية تهدد القرار الاقتصادي العراقي وتضعف استقلالية النظام المصرفي الوطني.

نزيف أرباح إلى الخارج دون استثمار
في سابقة خطيرة، سمح البنك المركزي لإدارات مصارف – أغلبها مملوكة لمؤسسات أجنبية – بتحويل أكثر من 75% من أرباحها السنوية إلى الخارج، على شكل أرباح موزعة، دون أن يُلزمها بإعادة استثمار جزء من هذه الأرباح داخل السوق العراقية. هذا السلوك يتنافى مع أبسط قواعد العمل المصرفي التنموي، وكان يفترض أن يُواجه بإجراءات واضحة تُجبر هذه المصارف على تطوير خدماتها، تعزيز رأس مالها، أو المساهمة في مشاريع استثمارية وطنية، بدلًا من أن تصبح مجرد قنوات لتحويل العملة الصعبة إلى الخارج.

نصائح دولية عاجلة للإصلاح
مؤسسات دولية عدة، منها وزارة الخزانة الأميركية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، قدمت توصيات واضحة. من أبرزها: تشديد الالتزام بقوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تعزيز الشفافية في معاملات الدولار، تقوية الرقابة الداخلية والخارجية على المصارف، مراجعة جودة الأصول، وتحديث البنية الرقمية للقطاع. كما دعت هذه المؤسسات إلى رفع الحد الأدنى لرأس المال المصرفي ودمج أو تصفية المصارف المتعثرة، بهدف خلق نظام أكثر متانة.

مسؤولية مباشرة للبنك المركزي
البنك المركزي ليس جهة رقابية محايدة فقط، بل هو شريك أصيل في الأزمة. فقد سمح باستمرار نافذة العملة رغم مخاطرها، ولم يُلزم المصارف بتطبيق معايير الحوكمة الدولية، وتراخى في فرض الضوابط على التملك الأجنبي، ولم يضع إطارًا تشريعيًا فعالًا لحماية المودعين أو ضبط هيكلة المصارف. مسؤوليته ليست تقنية فقط، بل أخلاقية ومؤسسية أمام اقتصاد يتعرض للاستنزاف.

فرصة إصلاح ما زالت قائمة
رغم المشهد القاتم، لا تزال الفرصة قائمة لإنقاذ النظام المصرفي العراقي. يتطلب ذلك إرادة سياسية ومهنية، تبدأ بإصلاح التشريعات، وفرض رقابة صارمة، وتفعيل الشفافية، والتعاون مع المؤسسات الدولية لاستعادة الثقة. لا تنمية حقيقية من دون قطاع مصرفي قوي، ولا قطاع مصرفي ناجح من دون بنك مركزي مستقل وفاعل، يدرك أنه ليس فقط حارسًا للسيولة، بل صانعًا للاستقرار.

زر الذهاب إلى الأعلى
Betzoid Showcases: New $300 No Deposit Bonus Casinos in Australia