
وسائل الإعلام وانتخابات مجلس النواب بين والحيادية والتضليل
ابراهيم الخليفة
واحدة من وظائف الإعلام الرئيسية ، سلطة رابعة في النظم الليبرالية ،هي خدمة المجتمع في تقديم معلومات صحية ، دقيقة ،موثقة ومحايدة تساعد في تنمية الجمهور وخدمته، وفي تقويم الأخطاء، اضافة إلى مساهمته الفعالة في تشكيل الرأي العام ، وفي التأثير على سلوكيات الأفراد وتوجهاتهم الحالية والمستقبلية تجاه قضية ما، والابتعاد عن التضليلDisinformation والخداع ، خاصة إذا ما كان المجتمع يعيش حالة من الصراع ما بين الخير والشر، ما بين الظلام والنور، حينها تلتبس على المواطن الحقائق وتختلط الاوراق، وتتشوه الصورة ، عندها يلجأ إلى وسائل الإعلام، اضافة إلى الصورة الذهنية، و خزينه المعرفي من معلومات وأراء، وعبر تجربته لاتخاذ القرار أو الاختيار الصائب، وخاصة عندما تتعلق المسألة أو الحالة بأمور مصيرية يستند عليها في بناء وتنمية المجتمع في مختلف الجوانب.
الإعلام العراقي يعيش هذه الأيام تفاعلات حدث مهم ومصيري، المتمثل في انتخابات مجلس النواب في دورته السادسة منذ 2003، والمقرر إجراءها في الحادي عشر من شهر نوفمبر المقبل، وتفاعله مع هذا الحدث والمسؤولية المناط به في كيفية التعامل معها في إطار المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلامSocial Responsibility of the Media.يتنافس فيها المرشحون على شغل (329) مقعدا انتخابيا ، وفق القائمة المفتوحة، وبالتمثيل النسبي للكيانات المشاركة.
المراقب لهذا الشأن، يلاحظ احتدام الصراع والتنافس بين أركان العملية السياسية، الذين يتسيدون المشهد السياسي غير المتجانس والقائم على المحاصصة الطائفية والتوافقية الحزبية وسيادة المصالح الفئوية والمناطقية على حساب الهوية الوطنية والمصالح العليا للشعب والبلاد.
تتضمن الحملات الانتخابية التي بدأت في الثالث من أكتوبر وبشكل مكثف ،التعريف بالمرشحين وعرض برامجهم السياسية والاجتماعية، والكيانات التي يمثلونها من خلال وسائل الإعلام ومنصات التواصل ألإجتماعي، والطرق والساحات العام والندوات والمناظرات السياسية Political debates، وحتى شرفات المنازل، مما احدث تشوها بصريا في بغداد حصرا وفي مختلف المحافظات بصورة اشمل ، فمن غير المنطقي ان تغيب وسائل الإعلام عن المشهد ،اذ تشهد هذه الدورة تنافساً محتدماً بين (31) تحالفاً، و(38) حزباً، و(75) قائمة فردية، جميعها تسعى للفوز بمقعد برلماني .
ومن هنا يعول هؤلاء المتنافسين غير المتكافئين في الإمكانيات والقدرات والتأثير والنفوذ المدعوم بالسلاح، الوصول إلى البرلمان، الذي تأمل القاعدة الجماهيرية ان يكون مختلفا عما سبقه لانتشال البلد نحو غد أفضل من الحالة السائدة الان.
هذا التداخل يُبرز تساؤلاً شرعياً ومنطقيا مستنبط من رسالة الإعلام، وهو لب موضوعنا: هذا اين تقف وسائل الإعلام تحت مختلف تسمياتها ووظائفها وعناوينها من هذا الصراع الانتخابي؟ هل تقف مع الجمهور أم ضده هل تلتزم ببنود رسالتها الإنسانية ام تطغى المصالح على الأهداف، وهي التي تُعد محورا ووسيلة مهمة يوظفها المرشحين للوصول إلى غاياتهم، والمتمثلة في حصد الاصوات المطلوبة التي تقودهم إلى المجلس التشريعي، عبر تعريف الجمهور بهم.
بدأت حملات الدعاية الانتخابية للمرشحين وفق التاريخ الرسمي في الثالث من الشهر الجاري، وقد أضطلع الإعلام بدور جلي وريادي في التبشير والتسويق للمرشحين وبرامجهم الانتخابية، ولهذا فهو شريك وقناة اساسية ويتحمل مسؤولية في الانتخابات والنتائج التي تتمخض عنها.
واذا ما تم اجراء تحليل المحتوىContent Analysis للحملات الانتخابية والوعد التي يطلقها المرشحون منذ أول دورة انتخابية لحد الآن نجد تكرار المفاهيم والوعود والشعارات وتشابهها، التي تتعلق بحياة المواطن في القطاع الصحي والمعيشي ،البيئية ، التنمية والبنى التحتية، الكهرباء، طرق المواصلات، فرص العمل العدالة الاجتماعية وسيادة القانون حصر (السلاح) بيد الدولة، بناء حياة مترفة للمواطن، تكافؤ الفرص ، مع أن أغلبها مكرر ومرحل من دورة انتخابه إلى اخرى، تكرار في الشخوص والاهداف والشعارات ، مبنية على الخيال والاوهام وارتجالية بعيدة عن المنطق ، وليس معدة ضمن استراتيجية علمية مدروسة معتمدة على استطلاعات الرأي او صادرة عن مراكز بحثية متخصصة ، فهي غير قابلة للتطبيق لظروف موضوعية أو ذاتية ، او لعدم وجود النية الصادقة في تحويل ما يطرح من برامج انتخابية وشعارات إلى ورقة عمل ميدانية، واذا ما تحقق من هذه الوعود فهو شيء وجيز، مقابل الكم الهائل من الامنيات، لان أكثرها مبني على المصالح الشخصية والفئوية والمناطقية، والامتيازات والمكاسب ،وانعدام البرامج التنموية التي تنتقل بالبلد من وضعه المشوه الحالي إلى احداث حالة تغيير نحو الأفضل، واختفاء الرؤيا الوطنية والجماهيرية، لأن وبصراحة ، المرشح او الحزب او الكتلة التي صرفت ملايين الدنانير على الدعاية الانتخابية ، فمن غير المنطقي ان تصرف هذه الامكانيات من اجل خدمة المواطن او مقابل لا شيء ،بل تتجه نحو الافق الذي يضمن لها استرجاع هذه الاموال ومضاعفتها وفق التحايل على القوانين السائدة يساعده في ذلك نظام المحاصصة الطائفية أو المناطقية أو التخادم في المصالح، التي بني على اساسها النظام البرلماني في البلد .
كما يلاحظ أن تلك الاحزاب او الكيانات تلجا في برامجها الانتخابية إلى الاستمالات العاطفية Emotional Appeals في رسائلها الاقناعية المبنية على التوجهات العقائدية والطائفية والمظلومية والنبش في أدراج الماضي، والعزف على الوتر الطائفي لكسب اصوات الجمهور ، والأسلوب الاخرى الذي تلجا اليها في اقناع الناخبين للتصويت لصالحها، هو استمالات الترهيب والتخويف ، الذي نجده في خطاب الشخصيات الطائفية وفي الشعارات الانتخابية القومية والمذهبية التي ترفعها في حال عدم الالتزام بتنفيذ توصيات الجهات ا لحزبية بان ذلك سوف يترك أثر سلبي عليها ،بل نجد اختفاء اسلوب الاقناع persuasion العلمي المنطقي، والذي يبحث عنه الناخب ويجيب على تساؤلاته واحتياجاته والمدعومة بالحجج والشواهد المنطقية، لأن ذلك ينعكس على الواقع، فالكثير من البرامج الانتخابية لا يسمعها الجمهور ولا يرى المرشح إلا في الحملات الانتخابية وتنتهي بعد إعلان النتائج.
اذا ما تم اسقاط البرامج الانتخابية على واقع الحال الذي يعيشه البلد ونسبة المتحقق منها على كافة الأصعدة الخدمية والمعرفية نجد هناك فرق شاسع بين ما يطرح من شعارات وبرامج انتخابية واحتياجات الجمهور وبين المتحقق، وخاصة ان اغلب المرشحين لهذه الدورة الانتخابية هم أعضاء في البرلمان ولمدة أكثر من دورة، مما دفع البعض من المواطنين محاججتهم على ارض الواقع من خلال الاخفاقات في الأداء الحكومي ويقدمون أمثلة واقعية حية عن تلك الاخفاقات عبر المقابلات الحية او البرامج المباشرة لمواقع التواصل الاجتماعي ،فالمعضلات التي يعاني منها البلد باقية كما هي مثل مشكلة البطالة وتهالك البنية التحتية للخدمات، الكهرباء التعليم الصحة وغيرها، مع ان كل برامج المرشحين توعد بحلها منذ اول برلمان، بينما لا يدعم الواقع المعاش ذلك. إذن الإعلام هو الوسيلة الفاعلة والمؤثرة التي يوظفها المرشح لمخاطبة جمهوره.
وفي ضوء هذه الاخفاقات على مدار السنوات المنصرمة من عمر البرلمان، نشأت حالة من اليأس والتذمر تسود الجمهور وعدم القناعة بهذه الانتخابات والنتائج التي تفرزها جراء فشل المرشحين من الإيفاء بوعودهم، وهذا ما يلاحظه المراقب المتابع للشأن من خلال قراءة ردود الافعال، وبناءً على ذلك، ظهر طيف من الجمهور يناقش ويحمل الإعلام المسؤولية كونه أصبح اداة تسويق وترويج للمرشحين اثبتت الاحداث فشلهم وعدم صدقهم في الإيفاء بوعودهم الانتخابية، ومع هذا يُجمل لهم الصورة وهنا يقع بحكم المضلل للجمهور.
قبل ما أن نخوض في دور وسائل الإعلام في الصراع الانتخابي، وهل هو مروج ومشجع لبرامج انتخابية فاشلة بحكم العلاقة بين الجمهور والسلطة الرابعة ام هو فقط وسط ناقل للرسالة الإعلامية ، وهل يستثنى من ذلك وسائل الإعلام المؤدلجة ، وتتحمل مسؤولية تضليل الشارع الترويج لبرامج انتخابية غير مفعلة، وما بين هذا وذاك ، لابد من أن نعرج على النظام الصحفي والإعلامي في البلد ، والذي يمكن أن نصنفه ضمن ثلاث أطر رئيسية هي الإعلام الحزبي أو الأيديولوجي، وهو السائد والمسيطر والمتمثل بالصحافة المطبوعة قنوات إعلامية محلية ودولية ،راديو ، للإرسال الوطني والدولي ومنصات التواصل الاجتماعي، أغلبها تابع لأحزاب سياسية ذات توجهات دينية في إطارها العام، مدعوم بقدرات سياسية، مالية وفنية هائلة متأتية من المال السياسي وغسيل الاموال، والدعم الخارجي، يغلب على خطابها النبرة الطائفية.
الإعلام الحكومي أو الرسمي والمتمثل بالإعلام المطبوع، وقنوات تلفزيونية و راديوية ،محلية ودولية ، منصات التواصل الاجتماعي، هذا القطاع(العمومي) يفترض أن يكون محايداً وفق الدستور والقوانين الحاكمة، ويقف نفس المسافة من كافة المرشحين، لكن الواقع لا يؤكد ذلك، لأن الجهات أو الأحزاب المشكلة للحكومة هي التي تقف وراء او تُسير الماكنة الإعلامية الرسمية، تفرض أرادتها وأجندتها بصورة مباشرة او غير مباشرة على المجال العام، بحسب قوة نفوذها وتأثيرها السياسي والمالي عبر مرشحيها في الجهة المسؤولة عن ادارة هذا الكيان.
اما الإعلام إذا جاز لنا أن نطلق عليه الإعلام المحايد، ولو بشكل نسبي او غير المؤدلج “المستقل”، فهو محدود القدرات والإمكانيات المادية، البشرية واللوجستية أي محدود المضمون والتأثير.
يضاف إلى ذلك الإعلام الوارد من الخارج والذي ايضا قد يتأثر بالأهواء السياسية السائدة. كما هو الحال مع قناتي العربية والحدث التي خصصت جزء من ارسالها ومنذ بداية الحملة الانتخابية للتسويق للمرشحين عبر برامج حوارية مباشرة على سبيل المثال لا الحصر.
وتأسيسا على مقولة ان الإعلام في النظم الديمقراطية يتوجب ان يكون محايدا، يهدف إلى إمداد المتلقين بمعلومات دقيقة وموثقة حول الأحداث الدائرة في المعمورة، لكن الآن يجد نفسه في محور العملية الانتخابية ،لا يمكن ان يبقى محايداً في التغطية للفعالية الانتخابية، يسوق لهذا الجانب ويعتم على الجانب الاخر، فالإعلام المؤدلج تحت مختلف مسمياته يوظف كل قدراته وامكانياته في التعريف بالمرشحين وبرامجهم الانتخابية بحكم التبعية والعلاقة الوظيفية من خلال استضافتهم في حوارات معمقة وفق ما تمليه عليه اجندة الحزب او الكتلة التي يمثلها، ويسوق لبرامجهم او خطاباتهم الطائفية ويجعل منهم المنقذ والمخلص للبلد من كل الإخفاقات التي يمر بها متناسيا في الوقت نفسه أن اغلب الاشخاص الذين رشحوا انفسهم سبق وأن قدمهم للجمهور نفس الوجوه ونفس البرامج ، ومع هذا يمضي البلد من حال إلى آخر أسوأ.
والشيء نفسه بالنسبة للإعلام الرسمي الذي بات يوظف جزء من مساحة البث بأتجاه التعريف والترويج للمرشحين في مختلف وسائله، وكذلك بالنسبة للإعلام المستقل أو المحايد أي نفس الوجوه تتكرر الظهور في أكثر من وسيلة إعلامية أو موقع خبري. هناك من يبرر للإعلام المؤدجلة أن يسوق للجهات الحزبية الداعمة لها بحكم علاقة التبعية الوظيفية… لكن هناك من يأخذ على وسائل الإعلام المحايدة او المستقلة لماذا تروج لنواب أو مرشحين اثبتوا فشلهم في العملية التشريعية في أكثر من دورة انتخابية ، ويسوقون للخطاب الطائفي التحريضي وخطاب الكراهيةHate Speech ،ويضعون ذلك في حكم تضليل الناخب ، استغفاله وتزيف الحقائق ، ومع هذا هناك من يجادل في الاتجاه المعاكس ، وينظر على تفاعل وسائل الإعلام مع البرامج الانتخابية للمرشحين ، لا تقع ضمن إطار التضليل وإنما عرض للسيناريو Scenario كما هو ..
وهنا يأتي الرد على هذا التساؤل من المالكين والممولين لهذه الوسائل أن وسائل الإعلام غير التابعة للحكومة او الاحزاب تعاني في الاجمالي من مشكلات مالية اصابها في الصميم نتيجة انعدام الدعم الحكومي فهي تجد في الترويج للمرشحين فرص لا يمكن تجاهلها لتحسين وضعها المالي والعاملين فيها سواء ان كانت مطابع أو وسائل إعلام، وهي بالضرورة لا تتبنى محتويات البرامج التي يتحدث بها هؤلاء المرشحين بل المرشح نفسه هو من يتحمل مسؤولية تضليل جمهوره أو الإيفاء بوعوده ، فالحيادية هنا قد تكون طموح غير مرئي، أي هناك علاقة تخادمية بين المرشحين ووسائل الإعلام أملتها الظروف الموضوعية . هل الجمهور وقع ضحية تضليل وسائل الإعلام والتي تسوق لشخوص او برامج اثبت الوقت عدم وجودها على ارض الواقع، اي بناء النتائج على المقدمات، الموضوع بحاجة الى مزيد من الدراسة والنقاش، فهي وجهة نظر، ومع هذا تبقى رسالة الإعلام في النظم الليبرالية بجانب الحيادية والمهنية. وبعيدا عن التضليل.





