
القضاء في العراق الحلقة الضعيفة في معركة الفساد
التراخي القضائي اسهم في إنتاج بيئة اللّا ردع وتكريس الفساد كنهج لا كاستثناء
المستقلة/ تحقيق استقصائي/- منذ عام 2003 دخل العراق في مرحلة انتقالية معقدة، انفتحت فيها الحياة السياسية بشكل غير مسبوق لكن دون أن تُصاحبها إصلاحات متكاملة في المؤسسات الضامنة للدولة وعلى رأسها القضاء. توسعت المحاصصة وتفككت البنية الإدارية، فيما ظلت العدالة تعاني من تردد مزمن وبطء مزمن وعجز متكرر. هذا الانفصال بين السلطة السياسية وسلطة القانون مكّن الفساد من التحوّل إلى سلوك منظم، مدعوم بشبكات حماية سياسية وإدارية، فيما ظل القضاء أسير التوازنات أو رهين حسابات داخلية لم تتغير جذريًا رغم تغير الحكومات.
في هذه البيئة المهترئة بات الفساد جزءًا من معادلة الحكم لا انحرافًا عنها، وتحولت السلطة القضائية من أداة للحسم إلى دائرة بيروقراطية تتعامل مع الجرائم الكبرى كما لو كانت مخالفات إدارية، لا تهديدات وجودية لكيان الدولة.
قضايا الفساد الكبرى… بلا نهايات
من أبرز سمات البيئة العراقية بعد 2003 أن الفضائح لا تنتهي لكن الأحكام نادرة جدًا. ملف فساد في وزارة التجارة، وآخر في الكهرباء، وعقود ضخمة في النفط، ومشاريع متعثرة في التعليم والصحة، كلها مرت من أمام القضاء، لكنها إما لم تُحسم أو لم تُعلن نتائجها أو انتهت إلى قرارات هزيلة لا تُقنع الرأي العام ولا تُعيد الأموال المنهوبة.
في أكثر من تقرير رسمي لديوان الرقابة المالية ظهرت أرقام صادمة تُشير إلى اختفاء أموال أو صرفها خارج السياقات القانونية، لكن مصير هذه الملفات ظل معلقًا، إما بسبب “نقص الأدلة” أو “تغيّر الظروف” أو بسبب تسويات سياسية غير مُعلنة. بهذا الشكل تحوّل القضاء إلى حلقة ناقلة للتأجيل لا أداة للحسم، وفقدت الدولة قدرتها على فرض القانون من فوق.
العدالة البطيئة تُفرغ الردع من مضمونه
في الفقه القانوني هناك مقولة شهيرة “العدالة المتأخرة عدالة منقوصة”، وفي العراق هذه العدالة باتت منقوصة جدًا إلى حد أنها لم تعد تُحقق الردع بل تعززه سلبًا. حين يتأخر الحسم القضائي لسنوات، يتلقى الفاعلون إشارات ضمنية أن الإفلات من العقوبة ليس مستحيلًا، بل هو احتمال راجح لمن يملك الصبر والحماية.
وفي مجتمع فقد ثقته بمؤسسات الدولة، فإن غياب الأحكام الواضحة والعلنية في قضايا الفساد يُنتج أثرًا مضاعفًا، حيث تُطبع المخالفة وتفقد صفتها الجنائية لتتحول إلى “جزء من الواقع”، وكل مسؤول جديد يدخل المنصب وهو يعلم أنه ليس مضطرًا لإخفاء فساده كثيرًا، بل فقط لتأجيل المساءلة أو تمويهها.
فساد منظم وحماية غير مرئية
ما يميز واقع الفساد في العراق أنه ليس فرديًا أو عشوائيًا بل مؤسساتي ومنظم. شبكات الفساد لا تعمل وحدها بل تُحاط بحلقات دعم تشمل مسؤولين ونواب ووسطاء وحتى أفرادًا من منظومة القضاء أنفسهم بحسب شهادات من داخل السلك القضائي.
في أكثر من حالة جرى تداولها إعلاميًا، تم الإعلان عن فتح تحقيقات ثم اختفت بعدها التفاصيل تمامًا. لا أوامر توقيف ولا أوامر استرداد ولا لوائح اتهام معلنة، وكأن القضية قد طُويت بقرار فوقي. هذا الغموض في المسار القانوني لا يُضعف فقط المؤسسات بل يُفرغ فكرة العدالة من معناها ويجعل من الشفافية شعارًا للاستهلاك الإعلامي لا مبدأ عمليًا في الحكم.
شهادات من الميدان
في لقاءات خاصة مع قضاة ومحامين ومحققين تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هوياتهم، ظهرت صورة مقلقة لطبيعة الضغط الذي تتعرض له المنظومة القضائية، ليس فقط من الساسة بل أحيانًا من داخل المؤسسة القضائية نفسها. أحد القضاة قال لفريق التحقيق “نعم هناك ملفات فساد موثقة لا نصل بها إلى الحكم لأن هناك خطوطًا حمراء غير معلنة، والكل يعرف حدود اللعب جيدًا”.
محامٍ معروف في بغداد قال إن الفساد لا يُغطى فقط بالسكوت، بل أحيانًا بـ”القصور الإجرائي المتعمَّد”، حيث يتم التغافل عن أخطاء شكلية في الملف لتُستخدم لاحقًا كسبب لنقض الحكم أو إسقاط الدعوى. وأضاف أن كثيرًا من التحقيقات تبدأ بحماس وتنتهي بصمت تام بعد تدخل أطراف سياسية لها وزنها.
حين يصبح القانون خيارًا
المشكلة ليست فقط في الضغط السياسي، بل في ثقافة قانونية بدأت تتشكل داخل الجهاز القضائي نفسه. ثقافة تُسوّي بين التأجيل والحكمة، وتساوي بين الحياد والعجز، وتحيل الفساد من جريمة إلى ملف إداري يمكن تأجيله أو نسيانه. في هذه الثقافة يُصبح القانون مجرد أحد الخيارات المتاحة، وليس ضرورة أو حتمًا.
ولعل أخطر ما في هذه الثقافة أنها تفترض أن المواطن لا يعرف، أو لا يهتم، أو سيتعوّد. لكنها في الحقيقة تُعمّق هوة انعدام الثقة، وتُقنع الجميع أن القانون لا يُطبّق إلا على الضعفاء، وأنه يُرفع عند الكبار ولا يُطبق عليهم.
الدرس الإيطالي: عندما قلب القضاء الطاولة
في مطلع التسعينيات، فجّرت حملة “مانـي بوليتي” أو “الأيادي النظيفة” زلزالًا سياسيًا في إيطاليا. تحرك القضاء دون انتظار قرار سياسي، وفتح ملفات طالت أحزابًا كبرى وشخصيات نافذة، وأسقطت النظام السياسي القائم آنذاك بأكمله. الحملة لم تكن فقط إجراء قضائيًا بل لحظة تحول وطني أعادت تشكيل الوعي العام بالدولة والنزاهة والقانون.
التجربة الإيطالية تُظهر أن القضاء حين يتحرك بشفافية وجرأة واستقلال، يستطيع أن يقود التغيير لا أن ينتظره. وأن العدالة حين تكون فاعلة، لا تحتاج إلى تبرير، بل تخلق هي بنفسها شرعية جديدة للحكم.
إصلاح القضاء مفتاح المعركة
كل مشاريع مكافحة الفساد تظل شعارات معلقة إذا لم تكن مدعومة بقضاء حازم وسريع ومستقل. ولهذا فإن الإصلاح الحقيقي في العراق لا يبدأ من قوانين جديدة بل من إرادة قضائية حقيقية ترفض التسويات وتقطع مع الغموض وتُعلن بوضوح أن القانون لا يستثني أحدًا.
الإصلاح المطلوب ليس تنظيريًا بل عملي يتضمن إجراءات فورية يمكن البدء بها الآن مثل إنشاء مسارات سريعة للبت في قضايا المال العام، وتخصيص هيئة قضائية علنية تنشر الأحكام والتفاصيل أولًا بأول، وإنشاء وحدات تنفيذ قوية لتنفيذ الأحكام دون مماطلة، وتفعيل الرقابة على القضاة أنفسهم ومساءلتهم عند الإخلال أو التسويف.
مسؤولية الدولة والمجتمع
لا يمكن تحميل القضاء وحده مسؤولية تفشي الفساد، لكن لا يمكن إعفاؤه منها أيضًا. المجتمع بحاجة إلى قضاء يُطمئن لا يُحيّر، يُحاكم لا يُساوم، ويبعث الثقة لا الريبة. والإصلاح لا يتم ما لم يشارك فيه المواطن كطرف مراقب ومساءل، يطالب بالشفافية، ويرفض الصمت، ويعيد تعريف القانون كأداة لحماية المجتمع لا غطاء لحيتان الفساد.
حين يتحدث المواطنون عن ملفات الفساد، فهم لا يطلبون معجزات، بل فقط أن يروا قانونًا يُطبّق، ومسؤولًا يُحاسب، ومالًا عامًا يُسترد. وأن يسمعوا صوت العدالة لا صدى الصفقات.
خاتمة مفتوحة على الحقيقة
ليس القضاء في العراق عاجزًا عن الفعل، لكنه حتى الآن لم يُختبر في المعركة الكبرى. لم يُمنح الاستقلال الكامل، ولم يُمارس سلطته خارج حسابات السياسة. وقد يكون من السهل القول إن البيئة لا تساعد، أو إن الضغوط أقوى من النظام، لكن الحقيقة أبسط من ذلك. إذا لم يستعد القضاء دوره، سيبقى الفساد هو القاعدة، وسيفقد القانون شرعيته أمام الناس.
وحينها لن تعود هناك دولة بالمعنى الحقيقي، بل نظام يعيش على وقت مستعار. لأن الفساد لا يقتل المؤسسات فقط، بل يُفرغ الوطن من معناه. وكما قال لي كوان يو “تنظيف الدرج يبدأ من الأعلى”، فهل يبدأ القضاء العراقي أخيرًا هذه المهمة؟





