
استقلال القضاء العراقي أمام اختبار حقيقي مع اقتراب تشكيل الحكومة الجديدة
المستقلة / تقرير/ – بينما يستعد العراق لمرحلة جديدة في تشكيل حكومته عقب انتخابات برلمانية اقل ما يقال عنها كانت صعبة، يطفو على السطح جدلا قديما ومتجددا حول موقع القضاء ودوره في العملية السياسية، خصوصًا في ما يتعلق بتسمية رئيس الوزراء المقبل وترتيب التوازنات داخل البرلمان.
وسط هذه الأجواء، جاء بيان حديث صادر عن مجلس القضاء الأعلى نافياً بشكل قاطع أي دور سياسي أو تبنٍّ لأسماء مرشحة، ومؤكدًا أن تسمية الرئاسات هي شأن الأحزاب وحدها، لا علاقة للقضاء به.
توقيت البيان وصياغته حملا أبعادًا أوسع مما ورد في مضمونه، إذ قرأه مراقبون على أنه تعبير غير مباشر عن وجود تصعيد سياسي في الاتهامات الموجهة للمؤسسة القضائية، وتحديدًا لرئيسها القاضي فائق زيدان، الذي يرى البعض أنه بات في موقع يتجاوز الإطار القانوني إلى التأثير السياسي الفعلي.
هذه القراءة لا تنبع فقط من تحليل البيان، بل تتقاطع مع شهادات ثلاث شخصيات سياسية رفيعة تحدثت إلى “المستقلة”، وطرحت كل منها زاوية مختلفة للقلق.أحدهم تحدث عن مناخ خوف وكبح للتعبير السياسي، فيما أشار الثاني إلى نمط من الامتيازات الناتجة عن علاقات شخصية نافذة داخل المشهد القضائي، بينما أكد الثالث أن اسم رئيس مجلس القضاء بات يُطرح بانتظام في كواليس المشاورات السياسية بوصفه فاعلًا محوريًا لا يمكن تجاوزه.
قضاء على تماس مع السياسة
منذ انتهاء الانتخابات البرلمانية الأخيرة، كان القضاء حاضراً بقوة في مجريات الأحداث. فقد شكّل محطة حاسمة في التعامل مع الطعون المقدّمة ضد نتائج الانتخابات، كما تولّى النظر في قرارات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة المساءلة والعدالة.
هذا الدور القانوني لم يُنظر إليه بوصفه إجراءً قانونيا محضًا، بل فُهم في أوساط عدة باعتباره جزءًا من عملية إعادة رسم الخريطة البرلمانية، وترتيب موازين القوى بين الكتل السياسية، وهو ما جعل اسم القضاء يتردد بقوة في غرف التفاوض السياسي، سواء كفاعل مباشر أو كمؤسسة يُحسب لها ألف حساب عند صناعة القرار.
نفي رسمي وسط تصاعد التشكيك
البيان الصادر عن مجلس القضاء الأعلى تضمّن تأكيدات متكررة على أن القضاء لم يدعم أي مرشح لرئاسة الوزراء، ولا يشارك في تسمية الرئاسات، كما دعا القوى السياسية إلى احترام التوقيتات الدستورية، والامتناع عن زجّ اسم القضاء في خلافاتها.
الرسالة التي حملها البيان، كانت واضحة من حيث الشكل، لكنها تضمنت بين سطورها شعورًا بأن المؤسسة القضائية باتت تشعر بالضغط، أو على الأقل تحاول دفع الشبهات المتداولة عنها، والتي باتت تشكّل جزءًا من الخطاب السياسي في الكواليس.
روايات من داخل الطبقة السياسية
تُظهر شهادات حصلت عليها “المستقلة” من ثلاثة مصادر سياسية مطلعة اشترط عدم الكشف عنها، أن النظرة إلى دور القضاء اصبحت لا تخلو من الحذر أو القلق، حيث يرى بعض الفاعلين أن حضور القضاء تجاوز الإطار الدستوري والقانوني، وأصبح جزءًا من الحسابات السياسية اليومية.
أحد المصادر تحدّث عن حالة من “الرقابة الذاتية” يعيشها الكثير من السياسيين، نتيجة مخاوف من أن تؤدي تصريحاتهم إلى ملاحقات قانونية أو استبعادهم من الترشح رغم فوزهم بالانتخابات. وهو ما يفرض ـ في رأيه ـ مناخًا خانقًا يقلل من حرية التعبير السياسي، ويمنح القضاء سلطة غير مباشرة على الخطاب العام.
مصدر آخر سلّط الضوء على ما يصفه بـ”العلاقات الخاصة” التي تجمع بعض الشخصيات السياسية برأس المؤسسة القضائية، معتبرًا أن هذه العلاقات تمنح بعض الأطراف نفوذًا وحصانة غير متاحة لغيرهم. ويرى أن وجود شخصيات نافذة، سبق أن صدرت بحقها أحكام قضائية، تعود اليوم للعمل السياسي بثقة، يفتح باب الشك في مبدأ تكافؤ الفرص وعدالة المعايير.
المصدر الثالث ركّز على الحضور الرمزي المتزايد لرئيس مجلس القضاء الأعلى في كواليس التفاوض، قائلاً إن اسمه يُتداول بشكل يومي، وأحيانًا يُعامل كـ”لاعب أساسي” في تحديد اتجاهات ومخرجات العملية السياسية. ويرى أن هذا التداخل بين الدور القضائي والدور السياسي بات يثير قلقاً متزايدًا بين الفاعلين، الامر الذي دفع بعضهم لتفادي النقاش العلني حول دور القضاء خشية الاتهام أو سوء الفهم.
مساحة رمادية بين السلطات الثلاث
الواقع العراقي المعقّد يجعل من الصعب الفصل الحاد بين السلطات الثلاث. فالقضاء، بحكم موقعه، ينخرط في ملفات على تماس مباشر مع السياسة، سواء عند النظر في الطعون الانتخابية، أو عند تفسير النصوص الدستورية المتنازع عليها، أو حتى عبر البيانات التي تصدر لتوضيح موقفه من قضايا رأي عام.
كل ذلك يُنتج مشهداً تتداخل فيه الأدوار، ويختلط فيه ما هو قانوني بما هو سياسي، ما يدفع بعض القوى إلى تحميل القضاء مسؤوليات لا تقع ضمن اختصاصه، أو إلى محاولة استخدامه كأداة ضغط أو تبرير.
أزمة ثقة تتسع
التصريحات السياسية، والتقارير الإعلامية، وحتى النقاشات الجارية داخل اروقة الكتل، تعكس حالة من عدم اليقين تجاه حدود استقلال القضاء.
هذه الأزمة لا ترتبط ببيان بعينه أو حادثة واحدة، بل هي تراكم لمجموعة مؤشرات، يرى فيها البعض دليلًا على ميلٍ متزايد لتسييس القضاء أو استغلاله كأداة ضمن موازين القوى.
في المقابل، ينفي مجلس القضاء الأعلى بشدة هذه الاتهامات، ويصرّ على التزامه الكامل بالدستور واستقلاله عن أي توجه سياسي.
التأثير على المناخ السياسي العام
إذا استمرت هذه الصورة في الترسخ، فإن نتائجها لن تتوقف عند حدود العلاقة بين القضاء والسلطة، بل ستطال جوهر العملية السياسية، بدءًا من حرية التعبير وانتهاءً بثقة المواطن بالانتخابات.
مناخ الخوف من الإجراءات القضائية قد يدفع السياسيين إلى التزام خطاب محافظ، يتجنب الانتقاد أو الصدام. كما أن الإحساس بوجود تفاوت في معاملة الأطراف المختلفة، بناءً على قربها أو بعدها من مؤسسة القضاء، يُضعف شعور العدالة داخل المنظومة السياسية.
التحدي الحقيقي: الاستقلال بالفعل لا بالبيانات
رغم أهمية البيانات الرسمية الصادرة عن مجلس القضاء، إلا أن التحدي الأهم أمام المؤسسة القضائية يظل في قدرتها على إثبات استقلالها من خلال ممارساتها، وليس فقط عبر ما تصرّح به.
هذا يتطلب مستوى عالياً من الشفافية في نشر القرارات، وتفسيرات واضحة للإجراءات المتخذة، وإبعاد القضاء عن المشهد السياسي بكل ما فيه من مساومات ومناكفات.
الحاجة إلى نقاش وطني
ما يجري اليوم ليس أزمة بيان أو تصريحات، بل لحظة فاصلة تستدعي نقاشًا وطنيًا هادئًا حول طبيعة العلاقة بين القضاء والسياسة في العراق، ودور القضاء في النظام الديمقراطي.
ان إعادة ضبط هذه العلاقة لا تعني تحجيم القضاء، بل حمايته من أن يُستغل أو يُحمّل ما لا يحتمل. وهي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق القضاة والسياسيين ووسائل الإعلام والمجتمع المدني.
القضاء في العراق يقف اليوم عند مفترق حساس. بين خطاب رسمي يصرّ على الحياد، وواقع سياسي مليء بالاتهامات والشكوك، يبدو أن الخيط الفاصل بين الاستقلال والتأثير بات رفيعًا أكثر من أي وقت مضى.
وفي ظل هذه التعقيدات، يظل التحدي الأكبر هو بناء ثقة حقيقية بين القضاء والمجتمع، قائمة على الشفافية، والعدالة، والابتعاد التام عن لعبة المحاور السياسية، التي لا يخرج منها أحد منتصرًا، ولا يليق أن يُزجّ فيها القضاء أصلًا.





